بيان ان كل بدعة ضلالة للعلامة الهلالي
.
.
اعلم أن الإمام أبا إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي الغرناطي رحمة الله عليه ألف كتاباً سماه (( الاعتصام )) أقام فيه الحجج الدامغة و البراهين القاطعة على أن البدع – كلها – إذا كانت في الدين ضلالة ، و هي شر من أكبر الكبائر ، و بَيَّن انقسامها إلى إضافية و حقيقية و بين أن حكمها واحد ، فكل من قرأه و تمسك بعد ذلك ببدعة ، فلا يخلو : إما يكون جاهلاً بفهم معناه ، أو منافقاً يبغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم و يدعي الإسلام ، تستراً لأغراض دنيوية خسيسة ، و لا يتسع وقتي لنقل كثير منه و إنما أقتصر على قليل ، و لكنه كاف شاف لكل من كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد .
قال الشاطبي في الرد على القرافي و شيخه ابن عبد السلام اللذين زعما أن البدع تعتريها الأحكام الخمسة ( ج1،ص 147 ) فمثلا للواجب : بتدوين القرآن و الشرائع إذا خيف عليها الضياع ، و مثلا للندوب : بصلاة التراويح ، و مثلا للمكروه : بتخصيص الأيام الفاضلة بنوع من العبادة ، و مثلا للمباح : باتخاذ المناخل للدقيق .
قال الشاطبي في الرد عليها : (( و الجواب أن هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي ، بل هو في نفسه متدافع لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع و لا من قواعده إذ لو كان هناك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة ، و لكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بـها أو المخير فيها ، فالجمع بين تلك الأشياء المبتدعة و بين الأدلة التي تدل على وجوبـها أو ندبـها أو إباحتها جمع بين متنافيين .
أما المكروه منها و المحرم فمسلم من جهة كونـها بدعة لا من جهة أخرى ، إذ لو دل دليل على منع أمر أو كراهته لم يثبت ذلك كونه بدعة لإمكان أن يكون معصية كالقتل و السرقة و شرب الخمر و نحوها فلا بدعة يتصور فيها التقسيم البتة ، إلا الكراهية و التحريم حسبما ذكر في بابه ، فما ذكره القرافي عن الأصحاب من الاتفاق على إنكار البدع فصحيح . و ما قسمه فيها غير صحيح ، و من العجب حكاية الاتفاق مع المصادمة بالخلاف ، و مع معرفته بما يلزمه في خرق الإجماع ، و كأنه إنما اتبع في هذا التقسيم شيخه من غير تأمل ، فإن ابن عبد السلام ظاهر منه أنه سمى المصالح المرسلة بدعاً ، لأنـها لم تدخل بأعيانـها تحت النصوص المعينة ، و لكنها تلائم قواعد الشرع . فمن هنالك جعل القواعد هي الدالة على استحسانـها مع تسميته لها بلفظ البدع ؛ و استحسانـها من حيث دخولـها تحت القواعد ، و لما بني على اعتماد تلك القواعد استوت عنده مع الأعمال الداخلة تحت النصوص المعينة ، و صار من القائلين بالمصالح المرسلة و سماها بدعاً في اللفظ كما سمى عمر الجمع في قيام رمضان في المسجد بدعة ، و كما سيأتي إن شاء الله .
أما القرافي فلا عذر له في نقل تلك الأقسام على غير مراد شيخه و على غير مراد العلماء لأنه خالف الكل في ذلك التقسيم فصار مخالفاً للإجماع )) .
ثم قال أبو إسحاق : (( و أما قسم المندوب فليس من البدع بحال و تبيين ذلك بالنظر في الأمثلة التي مثل لها بصلاة التراويح في رمضان جماعة في المسجد ، فقد قام بـها رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد و اجتمع الناس خلفه .
فخرجه أبو داود عن أبي ذر قال : (( ضمنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم رمضان فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى ذهب ثلث الليل ، فلما كانت السادسة لم يقم بنا ، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل ، فقلنا : يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (( إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسب له قيام الليل )) قال : فلما كانت الرابعة لم يقم فلما كانت الثالثة جمع أهله و نساءه و الناس ، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح قلت : و ما الفلاح ! قال : السحور ، ثم لم يقم بنا بقية الشهر )) و نحوه في الترمذي و قال فيه حسن صحيح . لكنه صلى الله عليه و سلم لما خاف افتراضه على الأمة أمسك عن ذلك . ففي الصحيح عن عائشة : (( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ثم صلى القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا الليلة الثالثة و الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما أصبح قال : (( قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن يفرض عليكم )) و ذلك في رمضان )) . و خرجه مالك في الموطأ .
فتأملوا ! ففي هذا الحديث ما يدل على أنـها سنة ، فإن قيامه أولاً بـهم دليل على صحة القيام في المسجد في رمضان ، و امتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقاً ، لأن زمانه كان زمان تشريع و وحي ، فيمكن أن يوحى إليه إذا عمل به الناس الإلزام ، فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله صلى الله عليه و سلم رجع الأمر إلى أصله و قد ثبت الجواز فلا ناسخ له ، و إنما لم يقم بذلك أبو بكر لأحد أمرين ، إما لأنه رأى قيام الناس آخر الليل و ما هم به عليه كان أفضل عنده من جمعهم على إمام أول الليل ، ذكره الطرطوشي ، و إما لضيق زمانه عن النظر في هذه الفروع ، مع شغله بأهل الردة و غير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح .
فلما تمهد الإسلام في زمان عمر و رأى الناس في المسجد أوزاعاً كما جاء في الخبر قال : لو جمعت الناس على قارئ واحد لكان أمثل ، فلما تم له ذلك نبه على أن قيامهم آخر الليل أفضل ، و لقد اتفق السلف على صحة ذلك و إقراره ، و الأمة لا تجمع على ضلالة ، و قد نص الأصوليون أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل شرعي .
فإن قيل : فقد سماها عمر بدعة و حسنها بقوله : (( نعمت البدعة هذه )) و إذا ثبتت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع .
فالجواب : إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه و سلم و اتفق أنـها لم تقع في زمن أبي بكر ، لا لأنـها بدعة حقيقية فمن سماها بدعة بـهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي ، و عند ذلك لا يجوز أن يستدل بـها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم عنه ، لأنه نوع من تحريف الكلام عن مواضعه ، فقد قالت عائشة : (( إن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ليدع العمل و هو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم )) )) .
ثم قال أبو إسحاق في القسم الخامس و هو المباح : (( و ذكر في قسم المباح مسألة المناخل و ليست في الحقيقة من البدع ، بل هي من باب التنعم ، و لا يقال فيمن تنعم بمباح إنه قد ابتدع )) .
و في حاشية الاعتصام قال بعض العلماء : (( البدعة اللغوية تعتريها الأحكام الخمسة ، و تنقسم إلى حسنة و سيئة ، و أما البدعة الشرعية فلا تكون إلا سيئة )) .
قال محمد تقي الدين : و العجب من القرافي كيف نقل إجماع المالكية و غيرهم من أئمة السلف على أن البدعة كلها ضلالة ثم خرق إجماعهم و استحسن بعضها ، و قد رأيت الرد المفحم الذي رد به الإمام الشاطبي و أزيد ذلك وضوحاً فأقول : قال الشاطبي في الاعتصام : (( قال مالك رحمه الله : (( من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه و سلم خان الرسالة لأن الله يقول : ] اليوم أكملت لكم دينكم [([1]) و ما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم دينا )) )) .
و هذا الكلام المحكم يقطع دابر المبتدعين فقد تضمن الاحتجاج بالكتاب و السنة و الإجماع ، أما الكتاب فكما قال مالك رحمه الله : لم ينتقل الرسول الكريم من هذه الدار الفانية حتى أكمل الله الدين و بلغه الرسول البلاغ المبين ، فمن استحسن شيئاً من البدع فإما يزعم أن النبي صلى الله عليه و سلم انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أن يكمل الله الدين و يتم النعمة أو يزعم أن النبي صلى الله عليه و سلم خان الرسالة بكتمان بعض ما أمر بتبليغه ، مع أنه لو زعم ذلك واقعاً لا ينفعه زعمه .
أما الأول : فإذا لم يكمل الله الدين فمن ذا الذي يكمله ؟
قال تعالى : ] فماذا بعد الحق إلا الضلال [([2]) و كل شيء من الدين ليس من الله فهو من الشيطان ، و لا يدين به إلا من يعبد الشيطان . قال تعالى في سورة يس : ] ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم و لقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون [([3]).
أما الثاني : فمن زعم أن محمداً صلى الله عليه و سلم كتم شيئاً أمره الله بتبليغه فهو كافر إجماعاً . و إذا كتم الرسول صلى الله عليه و سلم شيئاً من الدين ، حاشاه من ذلك ، فمن ذا الذي يستطيع أن يتلقى وحياً و يبلغه بعده ، و قد ختم الله الرسالة به صلوات الله و سلامه عليه ، و هكذا تدحض حجة المبتدعين ، فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين .
و قد بدا لي أن أرد على القرافي و من تبعه بطريقتي الخاصة فأقول : زعمه أن جمع القرآن بدعة واجبة باطل لأنه كان مجموعاً في زمان النبي صلى الله عليه و سلم في العسب و اللخاف ، أي الحجارة البيض المصفحة ، و في صدور الرجال ، و كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا نزلت عليه الآية و الآيات دعا أحد كتاب الوحي فأمره أن يكتبها في موضعها ، فلما توفي صلوات الله و سلامه عليه بقي القرآن مجموعاً في بيت عائشة ، فأخذه أبو بكر الصديق منها ، و أمر بجمعه في كتاب واحد . و لا فرق بين الجمعين و لا بين الكتابين فأين الإحداث و أين الابتداع ؟ .
أما الشاطبي فجعل هذا من المصالح المرسلة التي فهمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من نصوص القرآن و السنة ، و لو فرضنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم برئاسة أبي بكر الصديق أحدثوا في الدين أمراً – و حاشاهم من ذلك – فهل يستطيع المبتدع أن يبعثهم من مراقدهم و يأمرهم أن يجمعوا على بدعته حتى يتم له الاحتجاج ؟ أم يريد أن يقيس برأيه الفاسد بدعه الخبيثة على ما فعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فيقال له : بفيك الحصى و الجنادل([4]) . إن القياس لا يكون إلا على أمر ثبت بنص من نصوص الكتاب و السنة ، و نصوصها كلها تغبر في وجهك ، و لا يقيس إلا مجتهد و أنت مقلد أعمى ، بل بـهيمة تقاد ، كما تقدم من كلام أبي عمر بن عبد البر .
أما تمثيلهم للقسم الثاني ، و هو المحرم بأخذ المكوس فهو عجيب ، لأن البدعة هي أن يتقرب المبتدع إلى الله بزعمه بأمر محدث حقيقة أو شكلاً ، و لم يوجد أحد في الإسلام ، و إن كان أجهل الجاهلين و أظلم الظالمين ، يدعي أن الغصب و أخذ المكوس قربة إلى الله ، كيف و هو محرم بالنصوص القاطعة و هو من أكبر الكبائر بالإجماع ، فهذا يكون الإفلاس .
أما تمثيلهم للثالث بصلاة التراويح ، فقد أثبت الشاطبي أنـها سنة فعلها النبي صلى الله عليه و سلم ثم تركها خوف أن تفرض ، فلما توفي و تم التشريع جمع عمر الناس على قارئ واحد ، و تسمية ذلك بدعة هي تسمية لغوية و يقال فيه ما تقدم من نفي القياس و يزاد عليه أن القياس لا يكون في العبادات أصلاً كما حققه الإمام الشاطبي ، و برهان ذلك حديث عائشة في الصحيحين مرفوعاً : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) فدخل في ذلك البدع الحقيقية ، كالتقرب إلى الله بالرقص ، و قرع الطبول و نحو ذلك ، و البدع الإضافية كالاجتماع على الذكر بلسان واحد ، و قراءة القرآن كذلك ، و ما أشبه ذلك و هو كثير .
و تمثيلهم للرابع بتخصيص الأيام الفاضلة بعبادة من أوضح ما دلت عليه النصوص فهو بدعة إضافية .
و تمثيلهم للخامس باتخاذ المناخل ، فهو عجيب أيضاً إذ لا ينوي أحد التقرب إلى الله تعالى بطحن الحب و لا بنخله و خبزه و لا أكله ، و إنما ذلك أمر أباحه الله فمن شاء أن يأكله منخولاً أو غير منخول فلا حرج في ذلك .
قال تعالى في سورة الأعراف : ] قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة [([5]) و في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قدم المدينة وجدهم يلقحون النخل فقال : (( ما هذا ؟ )) فقالوا شيء نأخذه من الذكر و نجعله في الأنثى يصلح عليه التمر فقال : (( ما أراه ينفع )) ، فتركوا التلقيح ففسد التمر و صار شيصاً فأخبروه بذلك فقال : (( إذا حدثتكم عن الله فخذوا به فإني لا أكذب على الله ، و أنتم أعلم بأمور دنياكم )) أو كما قال عليه الصلاة و السلام فأمور الدنيا ليست فيها بدعة .
(( و عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (( إن الله فرض فرائض فلا تعتدوا ، و حد حدوداً فلا تقربوها ، و حرم أشياء فلا تنتهكوها ، و سكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها )) . حديث حسن رواه الدارقطني )) انتهى من كتاب الأربعين للنووي .
و أخرج البزار في مسنده و الحاكم من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (( ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، و ما حرم فهو حرام ، و ما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً . ثم تلا هذه الآية : ] و ما كان ربك نسيا[([6]) و قال الحاكم صحيح الإسناد . و قال البزار إسناده صالح .
قال محمد تقي الدين : لو أن المبتدعين تأملوا هذا الحديث و أخلصوا لله لم يبتدعوا في دين الله ، و لكن طبع الله على قلوبـهم و أصمهم و أعمى أبصارهم . و المقصود هنا أن كل شيء لم ينص الكتاب و السنة على تحريمه و لا على تحليله فقد عفا الله عنه و هو مباح لأن الله لا ينسى شيئاً و رسوله صلى الله عليه و سلم لا يكتم شيئاً
قال الشاطبي في الرد على القرافي و شيخه ابن عبد السلام اللذين زعما أن البدع تعتريها الأحكام الخمسة ( ج1،ص 147 ) فمثلا للواجب : بتدوين القرآن و الشرائع إذا خيف عليها الضياع ، و مثلا للندوب : بصلاة التراويح ، و مثلا للمكروه : بتخصيص الأيام الفاضلة بنوع من العبادة ، و مثلا للمباح : باتخاذ المناخل للدقيق .
قال الشاطبي في الرد عليها : (( و الجواب أن هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي ، بل هو في نفسه متدافع لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع و لا من قواعده إذ لو كان هناك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة ، و لكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بـها أو المخير فيها ، فالجمع بين تلك الأشياء المبتدعة و بين الأدلة التي تدل على وجوبـها أو ندبـها أو إباحتها جمع بين متنافيين .
أما المكروه منها و المحرم فمسلم من جهة كونـها بدعة لا من جهة أخرى ، إذ لو دل دليل على منع أمر أو كراهته لم يثبت ذلك كونه بدعة لإمكان أن يكون معصية كالقتل و السرقة و شرب الخمر و نحوها فلا بدعة يتصور فيها التقسيم البتة ، إلا الكراهية و التحريم حسبما ذكر في بابه ، فما ذكره القرافي عن الأصحاب من الاتفاق على إنكار البدع فصحيح . و ما قسمه فيها غير صحيح ، و من العجب حكاية الاتفاق مع المصادمة بالخلاف ، و مع معرفته بما يلزمه في خرق الإجماع ، و كأنه إنما اتبع في هذا التقسيم شيخه من غير تأمل ، فإن ابن عبد السلام ظاهر منه أنه سمى المصالح المرسلة بدعاً ، لأنـها لم تدخل بأعيانـها تحت النصوص المعينة ، و لكنها تلائم قواعد الشرع . فمن هنالك جعل القواعد هي الدالة على استحسانـها مع تسميته لها بلفظ البدع ؛ و استحسانـها من حيث دخولـها تحت القواعد ، و لما بني على اعتماد تلك القواعد استوت عنده مع الأعمال الداخلة تحت النصوص المعينة ، و صار من القائلين بالمصالح المرسلة و سماها بدعاً في اللفظ كما سمى عمر الجمع في قيام رمضان في المسجد بدعة ، و كما سيأتي إن شاء الله .
أما القرافي فلا عذر له في نقل تلك الأقسام على غير مراد شيخه و على غير مراد العلماء لأنه خالف الكل في ذلك التقسيم فصار مخالفاً للإجماع )) .
ثم قال أبو إسحاق : (( و أما قسم المندوب فليس من البدع بحال و تبيين ذلك بالنظر في الأمثلة التي مثل لها بصلاة التراويح في رمضان جماعة في المسجد ، فقد قام بـها رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد و اجتمع الناس خلفه .
فخرجه أبو داود عن أبي ذر قال : (( ضمنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم رمضان فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى ذهب ثلث الليل ، فلما كانت السادسة لم يقم بنا ، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل ، فقلنا : يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (( إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسب له قيام الليل )) قال : فلما كانت الرابعة لم يقم فلما كانت الثالثة جمع أهله و نساءه و الناس ، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح قلت : و ما الفلاح ! قال : السحور ، ثم لم يقم بنا بقية الشهر )) و نحوه في الترمذي و قال فيه حسن صحيح . لكنه صلى الله عليه و سلم لما خاف افتراضه على الأمة أمسك عن ذلك . ففي الصحيح عن عائشة : (( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ثم صلى القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا الليلة الثالثة و الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما أصبح قال : (( قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن يفرض عليكم )) و ذلك في رمضان )) . و خرجه مالك في الموطأ .
فتأملوا ! ففي هذا الحديث ما يدل على أنـها سنة ، فإن قيامه أولاً بـهم دليل على صحة القيام في المسجد في رمضان ، و امتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقاً ، لأن زمانه كان زمان تشريع و وحي ، فيمكن أن يوحى إليه إذا عمل به الناس الإلزام ، فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله صلى الله عليه و سلم رجع الأمر إلى أصله و قد ثبت الجواز فلا ناسخ له ، و إنما لم يقم بذلك أبو بكر لأحد أمرين ، إما لأنه رأى قيام الناس آخر الليل و ما هم به عليه كان أفضل عنده من جمعهم على إمام أول الليل ، ذكره الطرطوشي ، و إما لضيق زمانه عن النظر في هذه الفروع ، مع شغله بأهل الردة و غير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح .
فلما تمهد الإسلام في زمان عمر و رأى الناس في المسجد أوزاعاً كما جاء في الخبر قال : لو جمعت الناس على قارئ واحد لكان أمثل ، فلما تم له ذلك نبه على أن قيامهم آخر الليل أفضل ، و لقد اتفق السلف على صحة ذلك و إقراره ، و الأمة لا تجمع على ضلالة ، و قد نص الأصوليون أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل شرعي .
فإن قيل : فقد سماها عمر بدعة و حسنها بقوله : (( نعمت البدعة هذه )) و إذا ثبتت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع .
فالجواب : إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه و سلم و اتفق أنـها لم تقع في زمن أبي بكر ، لا لأنـها بدعة حقيقية فمن سماها بدعة بـهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي ، و عند ذلك لا يجوز أن يستدل بـها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم عنه ، لأنه نوع من تحريف الكلام عن مواضعه ، فقد قالت عائشة : (( إن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ليدع العمل و هو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم )) )) .
ثم قال أبو إسحاق في القسم الخامس و هو المباح : (( و ذكر في قسم المباح مسألة المناخل و ليست في الحقيقة من البدع ، بل هي من باب التنعم ، و لا يقال فيمن تنعم بمباح إنه قد ابتدع )) .
و في حاشية الاعتصام قال بعض العلماء : (( البدعة اللغوية تعتريها الأحكام الخمسة ، و تنقسم إلى حسنة و سيئة ، و أما البدعة الشرعية فلا تكون إلا سيئة )) .
قال محمد تقي الدين : و العجب من القرافي كيف نقل إجماع المالكية و غيرهم من أئمة السلف على أن البدعة كلها ضلالة ثم خرق إجماعهم و استحسن بعضها ، و قد رأيت الرد المفحم الذي رد به الإمام الشاطبي و أزيد ذلك وضوحاً فأقول : قال الشاطبي في الاعتصام : (( قال مالك رحمه الله : (( من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه و سلم خان الرسالة لأن الله يقول : ] اليوم أكملت لكم دينكم [([1]) و ما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم دينا )) )) .
و هذا الكلام المحكم يقطع دابر المبتدعين فقد تضمن الاحتجاج بالكتاب و السنة و الإجماع ، أما الكتاب فكما قال مالك رحمه الله : لم ينتقل الرسول الكريم من هذه الدار الفانية حتى أكمل الله الدين و بلغه الرسول البلاغ المبين ، فمن استحسن شيئاً من البدع فإما يزعم أن النبي صلى الله عليه و سلم انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أن يكمل الله الدين و يتم النعمة أو يزعم أن النبي صلى الله عليه و سلم خان الرسالة بكتمان بعض ما أمر بتبليغه ، مع أنه لو زعم ذلك واقعاً لا ينفعه زعمه .
أما الأول : فإذا لم يكمل الله الدين فمن ذا الذي يكمله ؟
قال تعالى : ] فماذا بعد الحق إلا الضلال [([2]) و كل شيء من الدين ليس من الله فهو من الشيطان ، و لا يدين به إلا من يعبد الشيطان . قال تعالى في سورة يس : ] ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم و لقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون [([3]).
أما الثاني : فمن زعم أن محمداً صلى الله عليه و سلم كتم شيئاً أمره الله بتبليغه فهو كافر إجماعاً . و إذا كتم الرسول صلى الله عليه و سلم شيئاً من الدين ، حاشاه من ذلك ، فمن ذا الذي يستطيع أن يتلقى وحياً و يبلغه بعده ، و قد ختم الله الرسالة به صلوات الله و سلامه عليه ، و هكذا تدحض حجة المبتدعين ، فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين .
و قد بدا لي أن أرد على القرافي و من تبعه بطريقتي الخاصة فأقول : زعمه أن جمع القرآن بدعة واجبة باطل لأنه كان مجموعاً في زمان النبي صلى الله عليه و سلم في العسب و اللخاف ، أي الحجارة البيض المصفحة ، و في صدور الرجال ، و كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا نزلت عليه الآية و الآيات دعا أحد كتاب الوحي فأمره أن يكتبها في موضعها ، فلما توفي صلوات الله و سلامه عليه بقي القرآن مجموعاً في بيت عائشة ، فأخذه أبو بكر الصديق منها ، و أمر بجمعه في كتاب واحد . و لا فرق بين الجمعين و لا بين الكتابين فأين الإحداث و أين الابتداع ؟ .
أما الشاطبي فجعل هذا من المصالح المرسلة التي فهمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من نصوص القرآن و السنة ، و لو فرضنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم برئاسة أبي بكر الصديق أحدثوا في الدين أمراً – و حاشاهم من ذلك – فهل يستطيع المبتدع أن يبعثهم من مراقدهم و يأمرهم أن يجمعوا على بدعته حتى يتم له الاحتجاج ؟ أم يريد أن يقيس برأيه الفاسد بدعه الخبيثة على ما فعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فيقال له : بفيك الحصى و الجنادل([4]) . إن القياس لا يكون إلا على أمر ثبت بنص من نصوص الكتاب و السنة ، و نصوصها كلها تغبر في وجهك ، و لا يقيس إلا مجتهد و أنت مقلد أعمى ، بل بـهيمة تقاد ، كما تقدم من كلام أبي عمر بن عبد البر .
أما تمثيلهم للقسم الثاني ، و هو المحرم بأخذ المكوس فهو عجيب ، لأن البدعة هي أن يتقرب المبتدع إلى الله بزعمه بأمر محدث حقيقة أو شكلاً ، و لم يوجد أحد في الإسلام ، و إن كان أجهل الجاهلين و أظلم الظالمين ، يدعي أن الغصب و أخذ المكوس قربة إلى الله ، كيف و هو محرم بالنصوص القاطعة و هو من أكبر الكبائر بالإجماع ، فهذا يكون الإفلاس .
أما تمثيلهم للثالث بصلاة التراويح ، فقد أثبت الشاطبي أنـها سنة فعلها النبي صلى الله عليه و سلم ثم تركها خوف أن تفرض ، فلما توفي و تم التشريع جمع عمر الناس على قارئ واحد ، و تسمية ذلك بدعة هي تسمية لغوية و يقال فيه ما تقدم من نفي القياس و يزاد عليه أن القياس لا يكون في العبادات أصلاً كما حققه الإمام الشاطبي ، و برهان ذلك حديث عائشة في الصحيحين مرفوعاً : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) فدخل في ذلك البدع الحقيقية ، كالتقرب إلى الله بالرقص ، و قرع الطبول و نحو ذلك ، و البدع الإضافية كالاجتماع على الذكر بلسان واحد ، و قراءة القرآن كذلك ، و ما أشبه ذلك و هو كثير .
و تمثيلهم للرابع بتخصيص الأيام الفاضلة بعبادة من أوضح ما دلت عليه النصوص فهو بدعة إضافية .
و تمثيلهم للخامس باتخاذ المناخل ، فهو عجيب أيضاً إذ لا ينوي أحد التقرب إلى الله تعالى بطحن الحب و لا بنخله و خبزه و لا أكله ، و إنما ذلك أمر أباحه الله فمن شاء أن يأكله منخولاً أو غير منخول فلا حرج في ذلك .
قال تعالى في سورة الأعراف : ] قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة [([5]) و في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قدم المدينة وجدهم يلقحون النخل فقال : (( ما هذا ؟ )) فقالوا شيء نأخذه من الذكر و نجعله في الأنثى يصلح عليه التمر فقال : (( ما أراه ينفع )) ، فتركوا التلقيح ففسد التمر و صار شيصاً فأخبروه بذلك فقال : (( إذا حدثتكم عن الله فخذوا به فإني لا أكذب على الله ، و أنتم أعلم بأمور دنياكم )) أو كما قال عليه الصلاة و السلام فأمور الدنيا ليست فيها بدعة .
(( و عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (( إن الله فرض فرائض فلا تعتدوا ، و حد حدوداً فلا تقربوها ، و حرم أشياء فلا تنتهكوها ، و سكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها )) . حديث حسن رواه الدارقطني )) انتهى من كتاب الأربعين للنووي .
و أخرج البزار في مسنده و الحاكم من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (( ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، و ما حرم فهو حرام ، و ما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً . ثم تلا هذه الآية : ] و ما كان ربك نسيا[([6]) و قال الحاكم صحيح الإسناد . و قال البزار إسناده صالح .
قال محمد تقي الدين : لو أن المبتدعين تأملوا هذا الحديث و أخلصوا لله لم يبتدعوا في دين الله ، و لكن طبع الله على قلوبـهم و أصمهم و أعمى أبصارهم . و المقصود هنا أن كل شيء لم ينص الكتاب و السنة على تحريمه و لا على تحليله فقد عفا الله عنه و هو مباح لأن الله لا ينسى شيئاً و رسوله صلى الله عليه و سلم لا يكتم شيئاً
0 Comments:
Post a Comment
<< Home